الستر.. من أخلاق الكبار
أخواني وأخواتي هذه الظاهرة أنتشرت بشكل واسع جدا في مجتمعنا ألا وهي ظاهرة إفشاء الاسرار وإنفضاح الستر من بعض ضعاف النفوس والذين ليس لهم هم سوى خراب البيوت العامرة بالحب والود والتفاهم وهدم كثير من الأسر المستقرة.ولقدوا رخّصوا في الكلمة وأشاعوها . ويقودهم بذلك الحقد والغيرة والحسد.أسال الله لهم الهدايا وان يتوبوا ويقلعوا.
اتمنى قراءة الموضوع للآخر حرصا من على الفائدة والله من وراء القصد.
الموضوع طويل لكنه مفيد.
ونعني بالسّتر هنا: إخفاء ما يُعلم من زلات الناس وعيوبهم.
كم هي البيوت التي تهدَّمت على أصحابها بسبب انفضاح سِترها وانكشاف عوراتها!، وكم هي المشكلات التي حدثت بين الناس لأنهم ترخَّصوا في الكلمة وأشاعوها!، وكم هي الجراح التي أدمت القلوب لأن البعض لم يحفظوا أسرارًا ائتمنوا عليها!، وكم هي لحظات الانكسار والذل التي عاشها البعض لأن البعض ترخَّصوا في نشر عوراتهم دون أدنى تحرُّج!، وكم هي المآسي التي امتلأت بها حياة الناس نتيجة كشف السِّتر عنهم!.
لماذا السّتر من أخلاق الكبار؟
لأن السّتر يعني القدرة على التحكم في النفس، ولَجْم اللسان عن إفشاء الأسرار ونقل الكلام، وهذا خلاف ما جُبلت عليه النفس من حب الثرثرة والرغبة في الكلام.
ولأن السّتر يعني حفظ الأسرار حتى في لحظات الخصام، وأوقات الخلاف، وهذا ما لا يقدر عليه إلا الكبار الذين يحفظون العهد ولا يخونون المجالس.
ولأن السّتر يعني اتصاف صاحبه بالحصافة والحكمة والقدرة على الكتمان ووضع الكلمة في مكانها الصحيح، وهذا ما لا يتصف به إلا الكبار
الله يستر عباده
من منا بدون أخطاء؟! ومن منا ليست له خطيئة؟!.. إنها طبيعة البشر، ولكن يبقى سَتر الله هو النعمة العظمى التي يشعر بطعمها كل من احتاج إليها، وخاف افتضاح ذنبه أو خطئه في حق الله أو حق البشر، ألا ترى أن السارق حين يسرق يدعو الله أن يستره من الفضيحة وانكشاف أمره؟! ألا ترى مرتكب الخطيئة وهو يفعل ما يفعل لسانه يردد "سترك يا رب"؟!.. إنه الطمع في ستر الله.
حتى إذا تاب هذا وذاك وحسنت صورته، وخشيَ افتضاح ما كان يفعله، فيتذكر هذه النعمة الكبرى، فيحمد ربه عليها، وفي الآخرة السَّتر الأعظم؛ حيث يقر العبد بذنوبه فيذكِّره ربه: "سترتها عليك في الدنيا، واليوم أسترك أمام الخلق"، يَقُولُ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن الله يُدني المؤمن فيضع عليه كنفه وستره من الناس ويقرره بذنوبه فيقول: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم" ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه; و أما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين"
إلا المجاهرين
من أجل هذا فإن الكبار متى ابتُلوا بذنبٍ سارعوا إلى الاستغفار والتوبة والندم على ما اقترفوه في حق مولاهم أو حق الآخرين، فيسترون فعلتهم، ويتجنبون ذكرها؛ أملاً أن يشملهم الحديث السابق، أما الذين يتجرَّءون على الله فيكشفون ستره، أو يُجاهرون بمعصيته، فأولئك في خطرٍ عظيمٍ، وسوف يُحرمون المعافاة كما جاء في الحديث عن أبي هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين، و إن من الجهار أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله تعالى فيقول: عملت البارحة كذا و كذا وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه"
أهمية ستر العورات، وحِفْظ خصوصيات البيوت، والنصح لهم لا نشر عوراتهم، عَنْ دُخَيْنٍ كَاتِبِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قُلْتُ لِعُقْبَةَ إِنَّ لَنَا جِيرَانًا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَأَنَا دَاعٍ لَهُمْ الشُّرَطَ فَيَأْخُذُوهُمْ، فَقَالَ: لا تَفْعَلْ، وَلَكِنْ عِظْهُمْ وَتَهَدَّدْهُمْ، قَالَ: فَفَعَلَ فَلَمْ يَنْتَهُوا، قَالَ: فَجَاءَهُ دُخَيْنٌ فَقَالَ: إِنِّي نَهَيْتُهُمْ فَلَمْ يَنْتَهُوا، وَأَنَا دَاعٍ لَهُمْ الشُّرَطَ، فَقَالَ: عُقْبَةُ.. وَيْحَكَ، لا تَفْعَلْ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ مُؤْمِنٍ فَكَأَنَّمَا اسْتَحْيَا مَوْءُودَةً مِنْ قَبْرِهَا"
ولمحبة الله تعالى لهذا الخلق الكريم فقد منح الكرامات العظيمة لأوليائه الذين يسترون عورات إخوانهم فلا يفضحونهم بإذاعة سرٍ أو نشر زلة.
وأول هذه الكرامات: دخول الجنة، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يرى مؤمن من أخيه عورة فيسترها عليه إلا أدخله الله الجنة"
وثاني هذه الكرامات: الستر يوم القيامة: عن عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لا يَظْلِمُهُ، وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"
وثالث هذه الكرامات: الدفاع عنهم والانتقام لهم؛ لأن من تجرأ على فضح أخيه تكفل الله بفضحه وكشف ستره عنه، حتى إن كان في جوف رحله، جاء في الحديث عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ.. لا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ وَمَنْ، تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ"
أشياء تجلب ستر الله
والطريق إلى ستر الله سهل ميسور على من يسَّره الله عليه، ومن الأسباب التي تجلب الستر على العبد المؤمن:
1-الصدقة.
2-الرفق وبر الوالدين والإحسان.
تربية الأبناء على حفظ السر
ومما يجدر بنا أن نفعله أن نُربيَ أبناءنا على حفظ الأسرار وأمانة المجالس، وعدم إفشاء أحاديثها كما فعلت أم أنس رضي الله عنهما، جاء في الحديث أن أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا فَبَعَثَنِي فِي حَاجَةٍ فَأَبْطَأْت عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْت قَالَتْ مَا حَبَسَك؟ قُلْت بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ، قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْت: إنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ: لا تُخْبِرْنَ بِسِرِّ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا.
قَالَ أَنَسٌ: "وَاَللهِ.. لَوْ حَدَّثْت بِهِ أَحَدًا لَحَدَّثْتُك بِهِ يَا ثَابِتُ".
وَقَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: "يَا بُنَيَّ.. إنِّي أَرَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِيكَ- يَعْنِي عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فَاحْفَظْ عَنِّي ثَلاثًا: لا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا، وَلا تَغْتَابَنَّ أَحَدًا، وَلا يَطَّلِعَنَّ مِنْك عَلَى كِذْبَةٍ".
الدعوة إلى ستر الزلات
----------------------------------------------------------------------
كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، ولأنه لا يوجد معصوم على وجه الأرض إلا الأنبياء والمرسلون، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد دعا العباد أن يستتروا بستر الله على أنفسهم، ولا يُبادروا إلى كشفه ما دام في الأمر متسعًا للتوبة والعودة والإنابة إلى الله، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ.. إِنِّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَى الْمَدِينَةِ، وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسَّهَا، فَأَنَا هَذَا فَاقْضِ فِيَّ مَا شِئْتَ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَكَ اللهُ لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ، قَالَ فَلَمْ يَرُدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا، فَقَامَ الرَّجُلُ فَانْطَلَقَ فَأَتْبَعَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلاً دَعَاهُ وَتَلا عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةَ ﴿وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: يَا نَبِيَّ اللهِ.. هَذَا لَهُ خَاصَّةً، قَالَ : "بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً"
ويُروى أَنَّ رَجُلاً اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَوْطٍ فَأُتِيَ بِسَوْطٍ مَكْسُورٍ، فَقَالَ: "فَوْقَ هَذَا" فَأُتِيَ بِسَوْطٍ جَدِيدٍ لَمْ تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ، فَقَالَ: "دُونَ هَذَا" فَأُتِيَ بِسَوْطٍ قَدْ رُكِبَ بِهِ وَلانَ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجُلِدَ ثُمَّ قَالَ: "أَيُّهَا النَّاسُ.. قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللهِ، مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ"
كتمان الشهادة
والدعوة للستر والتستر لا يعني أبدًا كتم الشهادة والامتناع عن أدائها متى طُلب إلى أدائها؛ لما في ذلك من ضياع للحقوق، وعدم انتصارٍ للحق وردعٍ الظالم والأخذ على يديه ﴿وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: من الآية 283).
أمانة المجالس
ومن أخطر ما يحتاج إلى ضبط وإحكام: أحاديث المجالس، والتي قد يُصرِّح فيها الشخص ببعض من مشاكله أو خصوصياته لأحد المقربين منه أو مجموعةٍ من المخلصين من حوله، فإذا بأحاديثه قد نُشرت، وأسراره قد ذاعت، وخصوصياته قد فشت، أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمَجَالِسُ بِالأَمَانَةِ إلا ثَلَاثَةَ مَجَالِسَ: سَفْكُ دَمٍ حَرَامٍ، أَوْ فَرْجٍ حَرَامٍ، أَوْ اقْتِطَاع مَالٍ بِغَيْرِ حَقٍّ"
بل إن مجرد الحديث العابر- والذي قد يظنه البعض أمرًا بسيطًا هينًا فيُعطون لأنفسهم حق إذاعته ونشره- قد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنه؛ فقد يكون ما يقدِّره البعض بسيطًا من وجهة نظرهم كبيرًا عند أصحاب الشأن؛ ولذلك فقد جاء في الحديث أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا حَدَّثَ الرَّجُلُ الْحَدِيثَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ"
وقد يتعلل البعض بأن صاحب الحديث لم يستكتمه أو يأتمنه عليه، ولأمثال هؤلاء نسوق لهم هذا الحديث الشريف الذي ينهى عن إذاعة مثل هذه الأحاديث ونشرها، َأَخْرَجَ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ: "مَنْ سَمِعَ مِنْ رَجُلٍ حَدِيثًا لا يَشْتَهِي أَنْ يُذْكَرَ عَنْهُ فَهُوَ أَمَانَةٌ وَإِنْ لَمْ يَسْتَكْتِمْهُ