تلوّت تلك الليلة الشتوية بمخاض عسير لتلد فجرا شاحبا، تثاءب بين أحضـان الغــيـــوم الرمادية، التي شهدت مولده عن كثب، فأطلقت زغردة مدوية و تطاير اللعاب من جوفهـا
لتغرق المدينة النائمة.
"...... و عاد ليجد حبيبته قد فارقت الحياة، تاركة له بضع صفحات مكتوبة بخط يدها المرتعش، تفوح منها رائحة قاتلها ... السم ... ختمتها بجملة كلاسيكية مؤثرة : إذا لاح طيفي أمامك ... إبتسم "
فرغت جميلة من قراءة تلك القصة المقتبسة عن رواية أوروبية من روايات الحب الجنوني، الذي لا ضوابط له، ذلك النوع من الحب الذي ألقى بها في هذا البيت الفسيح ... بيت الأيتام..
تساءلت: تراها ... هل كانت أمي مثلي؟ مدمنة على هذا النوع من القصصهل كانت تختم كتابا كاملا في ليلة واحدة ... مثلي ؟ابتسمت بسخرية مرددة: حين يلوح طيفي أمامكِ، هل تبتسمين ؟ أم أنك تشعرين بالخزي؟
كم طيفا آخر غيري رميته في مثل هذا البيت و رحلت تترنحين ؟
اتجهت صوب تلك النافدة القاسية، المكشرة دائما في وجهها عن أربعة قضبان من حديد،
مسحت زجاجها براحة كفها الدافئ، فأزاحت كتيبة من جيشها الضبابي المعسكر أمامها، فلاح منظر جميل، و تساقط المطر زخات دافئة في مقلتيها، لطالما تمنت أن تمشي تحت وطأة حباته اللؤلئية الهادئة، و لكن نظام الميتم لا يسمح بالتسكع خارجه .....أشياء كثيرة هنا لا يُسمح بها.
عـشـرون عـاما و هي تـركع أمــام هــذا المطـر الأخرس، ترجوه أن يطلق سراح حقيقة
انـتــماءها، ألـيس هو الذي شهد وجودها على بوابة الميتم، في مثل هده الليلة منذ عشرين عــامــا ؟
لا زالت تحــتــفــظ بذلك اللبـاس الصغيـــر الــذي وجدوه مبتلا على جسدها المزرق، لباس وردي اللّــون، تعــلوه يـــاقة بيضــــاء، طُـرز على جوانبها أرنبة تحتضن صغيرها أرنوب، كانت دائما تتحسس ذلك الطرز الحريري، تشعر بالغيرة من ذلك الأرنوب الصغير .......... لأنه في حضن والدته منذ عشرين عاما، خلافها هي.
كــانت تــخبئــه بحرص شديد فهو بطاقتها الشخصية، من يدري؟ قد تعود أمها في لــحــظة طــوقتها صحوة الضمير، فيُعرِّّفها هذا اللباس على ابنتها.
الساعة الآن السادســة صباحا، لــقــد حـان وقت الــرحيـل عن هذا البيت تاركة خلفها مئات الإخوة و الأخوات، تناوبت علـيهم عـشرات الأمهات ... أمهات من نوع خاص، مهات برواتب ثابتة و علاوات و منحا تشجيعية.
لــقــد حــالــفــها الحظ، نفس الحظ الذي تخلى عنها حين كان عمرها سويعات، ها هو الآن يهــرول ناحيتها بعد أن أصبح عمرها عشرون عاما.
بعد ساعات... سيكون لديها سكن خاص، و عمل بإحدى المستشفيات الخاصة كممرضة..... بـــدءا مــن الـيــوم ستصبـــح لــهـــا حيــاتــهــا الخــاصـة، ملكا لها وحدها، حياة ممضية من طرف ....... فــاعــل خـيـــر.
قــدِمــت المشــرفــة لترافقها من غرفتها إلى مكتب المديرة، لتستلم كل أوراقــهــا و كــذا رســـالة تــوصـــية، و قبل أن تخرج، أشارت لها المشرفة إلى السرير:
- جــميلة ... أنظري ماذا نسيت؟
فابتسمت مرددة: لقد حان دوري كي أتخلى عنها مثلما هي فعلت.
لقد تخلت عن بطاقتها الشخصية الوردية، و بجانبها أقصوصة ورق كتبت عليها :
قلوبنا تتوقف ببطء... طارحة أحلامنا و أمانينا كأوراق الخريف الميتة، فتتخطفها الرياح لتلهو بها بين أحضان الأعشاب الضارة، ثم تتركها متجمعة في أكوام، تتجنبها الأحذية اللامعة و تدوسها أقدام تائهة اللب أو عن غير عمد، من المُلام ؟ هل هي الأشجار التي عن أوراقها تخلت، مخففة حمولتها حتى لا يقتلعها الإعصار؟ هل هو الخريف الذي يأتي حاملا مقصلته على ظهر الرياح ؟ أم هي الأوراق ذاتها، التي تنمو كل مرة على نفس الأشجار ؟
ملاحظة : هذه الرسالة إلى مالكة الفستان الوردي ... هذا طبعا إن عادت باحثة عنه.